فصل: تفسير الآيات رقم (196- 198)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏189‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏189‏)‏‏}‏

تذييل بوعيد يدلّ على أنّ الله لا يخفى عليه ما يكتمون من خلائقهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏190- 194‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏190‏)‏ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏191‏)‏ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏192‏)‏ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ‏(‏193‏)‏ رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏194‏)‏‏}‏

هذا غرض أُنف بالنسبة لما تتابع من أغراض السورة، انتُقل به من المقدّمات والمقصد والمتخلِّلات بالمناسبات، إلى غرض جديد هو الاعتبار بخلق العوالم وأعراضها والتنويه بالذين يعتبرون بما فيها من آيات‏.‏

ومِثْل هذا الانتقال يكون إيذاناً بانتهاء الكلام على أغراض السورة، على تفنّنها، فقد كان التنقّل فيها من الغرض إلى مشاكله وقد وقع الانتقال الآن إلى غرض عامّ‏:‏ وهو الاعتبار بخلق السماوات والأرض وحال المؤمنين في الاتّعاظ بذلك، وهذا النحو في الانتقال يعرض للخطيب ونحوه من أغراضه عقب إيفائها حقّها إلى غرض آخر إيذاناً بأنّه أشرف على الانتهاء، وشأن القرآن أن يختم بالموعظة لأنّها أهمّ أغراض الرسالة، كما وقع في ختام سورة البقرة‏.‏

وحرف ‏(‏إنّ‏)‏ للاهتمام بالخبر‏.‏

والمراد ب ‏{‏خلْق السماوات والأرض‏}‏ هنا‏:‏ إمّا آثار خَلْقِها، وهو النظام الذي جعل فيها، وإمّا أن يراد بالخلق المخلوقات كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا خلق اللَّه‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 11‏]‏‏.‏ و‏{‏أولو الألباب‏}‏ أهل العقول الكاملة لأنّ لبّ الشيء هو خلاصته‏.‏ وقد قدّمنا في سورة البقرة بيان ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من الآيات عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن في خلق السموات والأرض واختلاف اللَّيل والنهار والفلك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏ إلخ‏.‏

و ‏{‏يذكرون الله‏}‏ إمّا من الذِّكر اللساني وإمّا من الذُّكر القلبي وهو التفكّر، وأراد بقوله‏:‏ ‏{‏قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم‏}‏ عموم الأحوال كقولهم‏:‏ ضَربه الظهرَ والبطْن، وقولهم‏:‏ اشتهر كذا عند أهل الشرق والغرب، على أنّ هذه الأحوال هي متعارَف أحوال البشر في السلامة، أي أحوال الشغل والراحة وقصد النوم‏.‏ وقيل‏:‏ أراد أحوال المصلّين‏:‏ من قادر، وعاجز، وشديد العجز‏.‏ وسياق الآية بعيد عن هذا المعنى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويتفكرون في خلق السموات والأرض‏}‏ عطف مرادف إن كان المراد بالذكر فيما سبق التفكّر، وإعادتُه لأجل اختلاف المتفكَّر فيه، أو هو عطف مغاير إذا كان المراد من قوله‏:‏ ‏{‏يذكرون‏}‏ ذِكر اللسان‏.‏ والتفكّر عبادة عظيمة‏.‏ روى ابن القاسم عن مالك رحمه الله في جامع العتبية قال‏:‏ قيل لأمّ الدرداء‏:‏ ما كان شأن أبي الدرداء‏؟‏ قالت‏:‏ كان أكثر شأنه التفكّر، قيل له‏:‏ أترى التفكّر عَمَلاً من الأعمال‏؟‏ قال‏:‏ نعم، هو اليقين‏.‏

‏{‏والخلق‏}‏ بمعنى كيفية أثر الخلق، أو المخلوقات التي في السماء والأرض، فالإضافة إمّا على معنى اللام، وإمّا على معنى ‏(‏في‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ربنا ما خلقت هذا باطلاً‏}‏ وما بعده جملة واقعة موقع الحال على تقدير قَوْلٍ‏:‏ أي يتفكّرون قائلين‏:‏ ربّنا إلخ لأنّ هذا الكلام أريد به حكاية قولهم بدليل ما بعده من الدعاء‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف تواطأ الجمع من أولي الألباب على قول هذا التنزيه والدعاء عند التفكّر مع اختلاف تفكيرهم وتأثّرهم ومقاصدهم‏.‏ قلت‏:‏ يحتمل أنّهم تلقَّوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يلازمونه عند التفكّر وعقبَه، ويحتمل أنّ الله ألهمهم إيّاه فصار هجيراهم مثلَ قوله تعالى‏:‏

‏{‏وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏ الآيات‏.‏ ويدلّ لذلك حديث ابن عباس في «الصحيح» قال‏:‏ ‏"‏ بتّ عند خالتي ميمونة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ العشر الآيات من سورة آل عمران ‏"‏ إلى آخر الحديث‏.‏

ويجوز عندي أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏ربنا ما خلقت هذا باطلاً‏}‏ حكاية لتفكّرهم في نفوسهم، فهو كلام النفس يشترك فيه جميع المتفكّرين لاستوائهم في صحّة التفكّر لأنّه تنقل من معنى إلى متفرّع عنه، وقد استوى أولو الألباب المتحدّث عنهم هنا في إدراك هذه المعاني، فأوّل التفكّر أنتج لهم أنّ المخلوقات لم تخلق باطلاً، ثم تفرّع عنه تنزيه الله وسؤاله أن يقيهم عذاب النار، لأنّهم رأوا في المخلوقات طائعاً وعاصياً، فعلموا أنّ وراء هذا العالم ثَواباً وعقاباً، فاستعاذوا أن يكونوا ممّن حقّت عليه كلمة العذاب‏.‏ وتوسّلوا إلى ذلك بأنّهم بذَلوا غاية مقدورهم في طلب النجاة إذ استجابوا لمنادي الإيمان وهو الرسول عليه الصلاة والسلام، وسألوا غفران الذنوب، وتكفير السيئات، والموتَ على البر إلى آخره‏.‏‏.‏‏.‏ فلا يكاد أحد من أولي الألباب يخلو من هذه التفكّرات وربّما زاد عليها، ولمّا نزلت هذه الآية وشاعت بينهم، اهتدى لهذا التفكير من لم يكن انتبه له من قبل فصار شائعاً بين المسلمين بمعانيه وألفاظه‏.‏

ومعنى ‏{‏ما خلقتَ هذا باطلاً‏}‏ أي خلقاً باطلاً، أو ما خلقت هذا في حال أنّه باطل، فهي حال لازمة الذكر في النفي وإن كانت فضلة في الإثبات، كقوله‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 38‏]‏ فالمقصود نفي عقائد من يفضي اعتقادهم إلى أنّ هذا الخلق باطل أو خلي عن الحكمة، والعرب تبني صيغة النفي على اعتبار سبق الإثبات كثيراً‏.‏

وجيء بفاء التعقيب في حكاية قولهم‏:‏ ‏{‏فقنا عذاب النار‏}‏ لأنّه ترتّبَ على العلم بأنّ هذا الخلق حقّ، ومن جملة الحقّ أن لا يستوي الصالح والطالح، والمطيع والعاصي، فعلموا أنّ لكلّ مستقرّاً مناسباً فسألوا أن يكونوا من أهل الخير المجنّبين عذاب النار‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته‏}‏ مسوق مساق التعليل لسؤال الوقاية من النار، كما توذن به ‏(‏إنّ‏)‏ المستعملة لإرادة الاهتمام إذ لا مقام للتأكيد هنا‏.‏ والخزي مصدر خزِيَ يَخْزَى بمعنى ذلّ وهان بمرأى من الناس، وأخزاه أذلّه على رؤوس الأشهاد، ووجه تعليل طلب الوقاية من النار بأنّ دخولها خزي بعد الإشارة إلى موجب ذلك الطلب بقولهم‏:‏ ‏{‏عذاب النار‏}‏ أنّ النار مع ما فيها من العذاب الأليم فيها قهر للمعذَّب وإهانة علنية، وذلك معنى مستقرّ في نفوس الناس، ومنه قول إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏ولا تخزني يومَ يبعثون‏}‏ ‏[‏بالشعراء‏:‏ 87‏]‏ وذلك لظهور وجه الربط بين الشرط والجزاء، أي من يدخل النار فقد أخزيته‏.‏

والخزي لا تطيقه الأنفس، فلا حاجة إلى تأويل تأوّلوه على معنى فقَد أخزيته خزياً عظيماً‏.‏ ونظّره صاحب «الكشاف» بقول رُعاة العرب‏:‏ «من أدْرَكَ مَرْعَى الصَّمَّان فقد أدرك» أي فقد أدرك مرعى مخصباً لئلاّ يكون معنى الجزاء ضروري الحصول من الشرط فلا تظهر فائدة للتعليق بالشرط، لأنّه يخلي الكلام عن الفائدة حينئذ‏.‏ وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن زحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏‏.‏

ولأجل هذا أعقبوه بما في الطباع التفادي به عن الخزي والمذلّة بالهرع إلى أحلافهم وأنصارهم، فعلموا أن لا نصير في الآخرة للظالم فزادوا بذلك تأكيداً للحرص على الاستعاذة من عذاب النار إذ قالوا‏:‏ ‏{‏وما للظالمين من أنصار‏}‏ أي لأهل النار من أنصار تدفع عنهم الخزي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا إننا سمعنا منادياً‏}‏ أرادوا به النبي محمداً صلى الله عليه وسلم والمنادي، الذي يرفع صوته بالكلام‏.‏ والنداء‏:‏ رفع الصوت بالكلام رفعاً قوياً لأجل الإسماع وهو مشتقّ من النداء بكسر النون وبضمّها وهو الصوت المرتفع‏.‏ يقال‏:‏ هو أندى صوتاً أي أرفعُ، فأصل النداء الجهر بالصوت والصياح به، ومنه سمّي دعاء الشخص شخصاً ليقبل إليه نداء، لأنّ من شأنه أن يرفع الصوت به؛ ولذلك جعلوا له حروفاً ممدودة مثل ‏(‏يا‏)‏ و‏(‏آ‏)‏ و‏(‏أيا‏)‏ و‏(‏هيا‏)‏‏.‏ ومنه سمّي الأذان نداء، وأطلق هنا على المبالغة في الإسماع والدعوة وإن لم يكن في ذلك رفع صوت، ويطلق النداء على طلب الإقبال بالذات أو بالفَهم بحروف معلومة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 104، 105‏]‏ ويجوز أن يكون هو المراد هنا لأنّ النبي يدعو الناس بنحو‏:‏ يأيّها الناس ويا بَني فلان ويا أمّة محمد ونحو ذلك، وسيأتي تفسير معاني النداء عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونودوا أن تلكم الجنة‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏‏.‏ واللام لام العلّة، أي لأجل الإيمان بالله‏.‏

و ‏(‏أن‏)‏ في أن آمنوا‏}‏ تفسيرية لما في فعل ‏(‏يُنادي‏)‏ من معنى القول دون حروفه‏.‏

وجاءوا بفاء التعقيب في ‏(‏فآمنّا‏)‏‏:‏ للدلالة على المبادرة والسبق إلى الإيمان، وذلك دليل سلامة فطرتهم من الخطأ والمكابرة، وقد توسّموا أن تكون مُبادرتهم لإجابة دعوة الإسلام مشكورة عند الله تعالى، فلذلك فرّعوا عليه قولهم‏:‏ ‏{‏فاغفر لنا ذنوبنا‏}‏ لأنّهم لمّا بذلوا كلّ ما في وسعهم من اتّباع الدين كانوا حقيقين بترجّي المغفرة‏.‏

والغَفْر والتكفير متقاربان في المادة المشتقيْن منها إلاّ أنّه شاع الغفر والغفران في العفو عن الذنب والتكفير في تعويض الذنب بعوض، فكأنّ العوض كفّر الذنب أي ستره، ومنه سمّيت كفّارة الإفطار في رمضان‏.‏ وكفّارة الحنث في اليمين إلاّ أنهم أرادوا بالذنوب ما كان قاصراً على ذواتهم، ولذلك طلبوا مغفرته، وأرادوا من السيّئات ما كان فيه حقّ الناس، فلذلك سألوا تكفيرها عنهم‏.‏

وقيل هو مجرّد تأكيد، وهو حسن، وقيل أرادوا من الذنوب الكبائر ومن السيّئات الصغائر لأنّ اجتناب الكبائر يكفّر الصغائر، بناء على أنّ الذنب أدلّ على الإثم من السيئة‏.‏

وسألوا الوفاة مع الأبرار، أي أن يموتوا على حالة البِرّ، بأن يلازمهم البرّ إلى الممات وأن لا يرتدّوا على أدبارهم، فإذا ماتوا كذلك ماتوا من جملة الأبرار‏.‏ فالمعية هنا معية اعتبارية، وهي المشاركة في الحالة الكاملة، والمعية مع الأبرار أبلغ في الاتّصاف بالدلالة، لأنّه برّ يرجى دوامه وتزايدُه لِكون صاحبه ضمن جمع يزيدونه إقبالاً على البرّ بلسان المقال ولسان الحال‏.‏

ولمّا سألوا أسباب المثوبة في الدنيا والآخرة ترقّوا في السؤال إلى طلب تحقيق المثوبة، فقالوا‏:‏ ‏{‏وآتنا ما وعدتنا على رسلك‏}‏‏.‏

وتحتمل كلمة ‏(‏على‏)‏ أن تكون لتعدية فعل الوعد، ومعناها التعليل فيكون الرسل هم الموعود عليهم، ومعنى الوعد على الرسل أنّه وعد على تصديقهم فتعيّن تقدير مضاف، وتحتمل أن تكون ‏(‏على‏)‏ ظرفاً مستقرّاً، أي وعداً كائناً على رُسلك أي، منزلاً عليهم، ومتعلَّق الجار في مثله كونٌ غير عامّ بل هو كون خاصّ، ولا ضير في ذلك إذا قامت القرينة، ومعنى ‏(‏على‏)‏ حينئذ الاستعلاء المجازي، أو تجعل ‏(‏على‏)‏ ظرفاً مستقرّاً حالاً ‏{‏ممّا وعدتنا‏}‏ أيضاً، بتقدير كون عامّ لكن مع تقدير مضاف إلى رسلك، أي على ألْسِنَةِ رسلك‏.‏

والموعود على ألسنة الرسل أو على التصديق بهم الأظهر أنّه ثواب الآخرة وثواب الدنيا‏:‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآتاهم اللَّه ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 148‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وعد اللَّه الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 105‏]‏‏.‏ والمراد بالرسل في قوله‏:‏ ‏{‏على رسلك‏}‏ خصوص محمد صلى الله عليه وسلم أطلق عليه وصف «رسل» تعظيماً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تحسبن اللَّه مخلف وعده رسله‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 47‏]‏‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 37‏]‏‏.‏

فإن قلتَ‏:‏ إذا كانوا عالمين بأنّ الله وعدهم ذلك وبأنَّه لا يخلف الميعاد فما فائدة سُؤالهم ذلك في دعائهم‏؟‏ قلت‏:‏ له وجوه‏:‏ أحدها‏:‏ أنّهم سألوا ذلك ليكون حصوله أمارة على حصول قُبول الأعمال التي وعد الله عليها بما سألوه فقد يظنّون أنفسهم آتين بما يبلّغهم تلك المرتبة ويخشون لعلّهم قد خلطوا أعمالهم الصالحة بما يبطلها، ولعلّ هذا هو السبب في مجيء الواو في قولهم‏:‏ ‏{‏وآتنا ما وعدتنا‏}‏ دون الفاء إذ جعلوه دعوة مستقلّة لتتحقّق ويتحقّق سببها، ولم يجعلوها نتيجة فعل مقطوع بحصوله‏.‏ ويدلّ لصحّة هذا التأويل قوله بعدُ‏:‏ ‏{‏فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 195‏]‏ مع أنّهم لم يطلبوا هنا عدم إضاعة أعمالهم‏.‏

الثاني‏:‏ قال في «الكشّاف»‏:‏ أرادوا طلب التوفيق إلى أسباب ما وعدهم الله على رسله‏.‏ فالكلام مستعمل كناية عن سبب ذلك من التوفيق للأعمال الموعود عليها‏.‏

الثالث‏:‏ قال فيه ما حاصله‏:‏ أن يكون هذا من باب الأدب مع الله حتّى لا يظهروا بمظهر المستحقّ لتحصيل الموعود به تذلّلاً، أي كسؤال الرسل عليهم السلام المغفرة وقد علموا أنّ الله غفر لهم‏.‏

الرابع‏:‏ أجاب القرافي في الفرق ‏(‏273‏)‏ بأنّهم سألوا ذلك لأنّ حصوله مشروط بالوفاة على الإيمان، وقد يؤيّد هذا بأنّهم قدّموا قبله قولهم‏:‏ ‏{‏وتوقنا مع الأبرار‏}‏ لكن هذا الجواب يقتضي قصر الموعود به على ثواب الآخرة، وأعادوا سؤال النجاة من خزي يوم القيامة لشدّته عليهم‏.‏

الخامس‏:‏ أنّ الموعود الذي سألوه هو النصر على العدوّ خاصّة، فالدعاء بقولهم‏:‏ ‏{‏وآتنا ما وعدتنا على رسلك‏}‏ مقصود منه تعجيل ذلك لهم، يعني أنّ الوعد كان لمجموع الأمّة، فكلّ واحد إذا دعا بهذا فإنّما يعني أن يجعله الله ممَّن يرى مصداق وعد الله تعالى خشية أن يفوتهم‏.‏ وهذا كقول خبّاب بن الأرتّ‏:‏ هاجرنا مع النبي نلتمس وجه الله فوقع أجرنا على الله فمِنَّا مَن أيْنَعَتْ له ثمرته فهو يهدبُها، ومنَّا من مات لم يأكُل من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحُد، فلم نجد له ما نكفّنه إلاّ بُردة» إلخ‏.‏

وقد ابتدأوا دعاءهم وخلّلوه بندائه تعالى‏:‏ خمس مرات إظهار للحاجة إلى إقبال الله عليهم‏.‏ وعن جعفر بن محمد رضي الله عنه «مَن حَزبه أمر فقال‏:‏ يا ربّ خمس مرات أنجاه الله ممّا يخاف وأعطاه ما أراد»، واقرأوا‏:‏ ‏{‏الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إنك لا تخلف الميعاد‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏195‏]‏

‏{‏فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ‏(‏195‏)‏‏}‏

دلّت الفاء على سرعة الإجابة بحصول المطلوب، ودلّت على أنّ مناجاة العبد ربّه بقلبه ضرب من ضروب الدعاء قابل للإجابة‏.‏

و ‏(‏استجاب‏)‏ بمعنى أجاب عند جمهور أيمّة اللغة، فالسين والتاء للتأكيد، مثل‏:‏ استوقد واستخلص‏.‏ وعن الفرّاء، وعليّ بن عيسى الربعي‏:‏ أنّ استجاب أخصّ من أجاب لأنّ استجاب يقال لمن قَبِل ما دُعِي إليه، وأجاب أعمّ، فيقال لمن أجاب بالقبول وبالردّ‏.‏ وقال الراغب‏:‏ الاستجابة هي التحرّي للجواب والتهيُّؤ له، لكن عبّر به عن الإجابة لقلّة انفكاكها منها‏.‏ ويقال‏:‏ استجاب له واستجابه، فعدّي في الآية باللام، كما قالوا‏:‏ حَمِدَ له وشكر له، ويعدّي بنفسه أيضاً مثلهما‏.‏ قال كعب بن سعد الغنوي، يرثي قريباً له‏:‏

وداع دعا يا من يجيب إلى الندا *** فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وتعبيرهم في دعائهم بوصف ‏{‏ربنا‏}‏ دون اسم الجلالة لما في وصف الربوبية من الدلالة على الشفقة بالمربوب، ومحبّة الخير له، ومن الاعتراف بأنّهم عبيده ولتتأتّى الإضافة المفيدة التشريف والقرب، ولردّ حسن دعائهم بمثله بقولهم‏:‏ «ربَّنا، ربَّنا»‏.‏

ومعنى نفي إضاعة عملهم نفي إلغاء الجزاء عنه‏:‏ جَعله كالضائع غير الحاصل في يد صاحبه‏.‏

فنفي إضاعة العمل وعد بالاعتداد بعملهم وحسبانه لهم، فقد تضمّنت الاستجابة تحقيق عدم إضاعة العمل تطميناً لقلوبهم من وَجل عدم القبول، وفي هذا دليل على أنّهم أرادوا من قولهم‏:‏ ‏{‏وآتنا ما وعدتنا على رسلك‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 194‏]‏ تحقيق قبول أعمالهم والاستعاذة من الحَبَط‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من ذكر أو أنثى‏}‏ بيان لعَامِللٍ ووجه الحاجة إلى هذا البيان هنا أنّ الأعمال التي أتوا بها أكبرها الإيمان، ثم الهجرة، ثم الجهاد، ولمّا كان الجهاد أكثر تكرّراً خيف أن يتوهّم أنّ النساء لا حظّ لهنّ في تحقيق الوعد الذي وعد الله على ألسنة رسله، فدفع هذا بأنّ للنساء حظّهنّ في ذلك فهنّ في الإيمان والهجرة يساوين الرجال، وهنّ لهنّ حظّهنّ في ثواب الجهاد لأنّهن يقمن على المرضى ويُداوين الكلْمى، ويسقين الجَيش، وذلك عمل عظيم به استبقاء نفوس المسلمين، فهو لا يقصر عن القتال الذي به إتلاف نفوس عدوّ المؤمنين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بعضكم من بعض‏}‏ ‏(‏من‏)‏ فيه اتّصالية أي بعضُ المستجاب لهم مُتّصل ببعض، وهي كلمة تقولها العرب بمعنى أنّ شأنهم واحد وأمرهم سواء‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏ إلخ‏.‏‏.‏‏.‏ وقولهم‏:‏ هو منّي وأنا منه، وفي عكسه يقولون كما قال النابغة‏:‏

فإنّي لستُ مِنْكَ ولستَ مِنِّي ***

وقد حملها جمهور المفسّرين على معنى أنّ نساءكم ورجالكم يجمعهم أصل واحد، وعلى هذا فمَوقع هذه الجملة موقع التعليل للتعميم في قوله‏:‏ ‏{‏من ذكر أو أنثى‏}‏ أي لأنّ شأنكم واحد، وكلّ قائم بما لو لم يقم به لضاعت مصلحة الآخر، فلا جرم أن كانوا سواء في تحقيق وعد الله إيّاهم، وإن اختلفت أعمالهم وهذا كقوله تعالى‏:‏

‏{‏للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 32‏]‏‏.‏

والأظهر عندي أن ليس هذا تعليلاً لمضمون قوله‏:‏ ‏{‏من ذكر أو أنثى‏}‏ بل هو بيان للتساوي في الأخبار المتعلّقة بضمائر المخاطبين أي أنتم في عنايتي بأعمالكم سواء، وهو قضاء لحقّ ما لهم من الأعمال الصالحة المتساوين فيها، ليكون تمهيداً لبساط تمييز المهاجرين بفضل الهجرة الآتي في قوله‏:‏ ‏{‏فالذين هاجروا‏}‏، الآيات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فالذين هاجروا‏}‏ تفريع عن قوله‏:‏ ‏{‏لا أضيع عمل عامل‏}‏ وهو من ذكر الخاصّ بعد العامّ للاهتمام بذلك الخاصّ، واشتمل على بيان ما تفاضلوا فيه من العمل، وهو الهجرة التي فاز بها المهاجرون‏.‏

والمهاجَرة‏:‏ هي ترك الموطن بقصد استيطان غيره، والمفاعلة فيها للتقوية كأنّه هَجر قومه وهَجَروه لأنّهم لم يحرصوا على بقائه، وهذا أصل المهاجرة أن تكون لمنافرة ونحوها، وهي تصدق بهجرة الذين هاجروا إلى بلاد الحبشة وبهجرة الذين هاجروا إلى المدينة‏.‏

وعطف قوله‏:‏ ‏{‏وأخرجوا من ديارهم‏}‏ على ‏{‏هاجروا‏}‏ لتحقيق معنى المفاعلة في هاجر أي هاجروا مهاجرة لزّهم إليها قومهم، سواء كان الإخراج بصريح القول أم بالإلجاء، من جهة سوء المعاملة، ولقد هاجر المسلمون الهجرة الأولى إلى الحبشة لما لاقوه من سوء معاملة المشركين، ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم هجرته إلى المدينة والتحق به المسلمون كلّهم، لما لاقوه من أذى المشركين‏.‏ ولا يوجد ما يدلّ على أنّ المشركين أخرجوا المسلمين، وكيف واختفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجه إلى المدينة يدلّ على حرص المشركين على صدّه عن الخروج، ويدلّ لذلك أيضاً قول كعب‏:‏

في فتيةٍ من قريششٍ قال قائلهم *** ببطْن مكّةَ لمَّا أَسلموا زُولوا

أي قال قائل من المسلمين اخرُجوا من مكّة، وعليه فكلّ ما ورد ممّا فيه أنّهم أخرجوا من ديارهم بغير حقّ فتأويله أنه الإلجاء إلى الخروج، ومنه قول ورقة ابن نوفل‏:‏ «يا ليْتني أكون معكَ إذ يُخْرِجُك قومُك»، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له‏:‏ ‏"‏ أوَ مُخْرِجيّ هُم‏؟‏ فقال‏:‏ مَا جاء نَبيء بمثللِ ما جئْتَ به إلاّ عُودي ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأَوذوا في سبيلي‏}‏ أي أصابهم الأذى وهو مكروه قليل من قول أو فعل‏.‏ وفهم منه أنّ من أصابهم الضرّ أولى بالثواب وأوفى‏.‏ وهذه حالة تصدق بالذين أوذوا قبل الهجرة وبعدها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وقاتلوا وقتلوا‏}‏ جُمع بينهما للإشارة إلى أنّ للقسمين ثواباً‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ وقاتلوا وقُتلوا‏.‏ وقَرَأ حَمزَة، والكسائي، وخلف‏:‏ وقُتلوا وقاتلوا عكس قراءة الجمهور ومآل القراءتين واحد، وهذه حالة تصدق على المهاجرين والأنصار من الذين جاهدوا فاستشهدوا أو بقوا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لأكفرن عنهم سيئاتهم‏}‏ إلخ مؤكّد بلام القسم‏.‏ وتكفير السيّئات تقدّم آنفاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏196- 198‏]‏

‏{‏لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ‏(‏196‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏197‏)‏ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ‏(‏198‏)‏‏}‏

اعتراض في أثناء هذه الخاتمة، نشأ عن قوله‏:‏ ‏{‏فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 195‏]‏ باعتبار ما يتضمّنه عدَمُ إضاعة العمل من الجزاء عليه جزاء كاملاً في الدنيا والآخرة، وما يستلزمه ذلك من حرمان الذين لم يستجيبوا لداعي الإيمان وهم المشركون، وهم المراد بالذين كَفَروا كَمَا هو مصطلح القرّاء‏.‏

والخطاب لغير معيّن ممّن يُتوهّم أن يغرّه حسن حال المشركين في الدنيا‏.‏

والغَرّ والغرور‏:‏ الإطماع في أمر محبوب على نيّة عدم وقوعه، أو إظهار الأمر المضرّ في صورة النافع، وهو مشتقّ من الغرّة بكسر الغين وهي الغفلة، ورجل غِرّ بكسر الغين إذا كان ينخدع لمن خادعه‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ المؤمن غرّ كريم ‏"‏ أي يظنّ الخير بأهل الشرّ إذا أظهروا له الخير‏.‏

وهو هنا مستعار لظهور الشيء في مظهر محبوب، وهو في العاقبة مكروه‏.‏

وأسند فعل الغرور إلى التقلّب لأنّ التقلّب سببه، فهو مجاز عقليّ، والمعنى لا ينبغي أن يغرّك‏.‏ ونظيره‏:‏ «لا يفتننّكم الشيطان»‏.‏ و‏(‏لا‏)‏ ناهية لأنّ نون التوكيد لا تجيء مع النفي‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ لا يَغُرّنَّك بتشديد الراء وتشديد النون وهي نون التوكيد الثقيلة؛ وقرأها رويس عن يعقوب بنون ساكنة، وهي نون التوكيد الخفيفة‏.‏

والتقلّب‏:‏ تصرّف على حسب المشيئة في الحروب والتجارات والغرس ونحو ذلك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلاّ الذين كفروا فلا يَغْرُرْك تَقَلُّبُهم في البلاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏‏.‏

والبلاد‏:‏ الأرض‏.‏ والمتاعُ‏:‏ الشيء الذي يشتري للتمتّع به‏.‏

وجملة ‏{‏متاع قليل‏}‏ إلى آخرها بيان لجملة ‏{‏لا يغرنك‏}‏‏.‏ والمتاع‏:‏ المنفعة العاجلة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏لكن الذين اتقوا ربهم‏}‏ إلى آخرها افتتحت بحرف الاستدراك لأنّ مضمونها ضدّ الكلام الذي قبلها لأنّ معنى ‏{‏لا يغرنّك‏}‏ إلخ وصف ما هم فيه بأنّه متاع قليل، أي غير دائم، وأنّ المؤمنين المتّقين لهم منافع دائمة‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ لكنْ بتخفيف النون ساكنة مخفَّفة من الثقيلة وهي مهملة، وقرأه أبو جعفر بتشديد النون مفتوحة وهي عاملة عمل إنَّ‏.‏

والنُزُل بضم النون والزاي وبضمّها مع سكون الزاي ما يعدّ للنزيل والضيف من الكرامة والقِرى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون نزلاً من غفور رحيم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 31، 32‏]‏‏.‏

و ‏(‏الأبرار‏)‏ جمع البَرّ وهو الموصوف بالمبرّة والبِرّ، وهو حسن العَمل ضدّ الفجور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏199‏]‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏199‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏لكن الذين اتقوا ربهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 198‏]‏ استكمالاً لذكر الفِرَق في تلقّي الإسلام‏:‏ فهؤلاء فريق الذين آمنوا من أهل الكتاب ولم يظهروا إيمانهم لخوف قومهم مثل النجاشي أصحمة، وأثنى الله عليهم بأنّهم لا يحرّفون الدين، والآية مؤذنة بأنّهم لم يكونوا معروفين بذلك لأنّهم لو عرفوا بالإيمان لما كان من فائدة في وصفهم بأنّهم من أهل الكتاب، وهذا الصنف بعكس حال المنافين‏.‏ وأكّد الخبر بأنّ وبلام الابتداء للردّ على المنافقين الذين قالوا لرسول الله لمّا صلّى على النجاشي‏:‏ انظروا إليه يصلّي على نصراني ليس على دينه ولم يره قط‏.‏ على ما روي عن ابن عباس وبعض أصحابه أنّ ذلك سبب نزول هذه الآية‏.‏ ولعلّ وفاة النجاشي حصلت قبل غزوة أُحُد‏.‏

وقيل‏:‏ أريد بهم هنا من أظهر إيمانه وتصديقه من اليهود مثل عبد الله بن سلام ومخيريق، وكذا من آمن من نصارى نجران أي الذين أسلموا ورسول الله بمكّة إن صحّ خبر إسلامهم‏.‏

وجيء باسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك لهم أجرهم عند ربهم‏}‏ للتنبيه على أنّ المشار إليهم به أحرياء بما سيرد من الإخبار عنهم لأجل ما تقدّم اسمَ الإشارة‏.‏

وأشار بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏ إلى أنّه يبادر لهم بأجرهم في الدنيا ويجعله لهم يوم القيامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏200‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏200‏)‏‏}‏

ختمت السورة بوصاية جامعة للمؤمنين تجدّد عزيمتهم وتبعث الهمم إلى دوام الاستعداد للعدوّ كي لا يثبّطهم ما حصل من الهزيمة، فأمَرَهم بالصبر الذي هو جماع الفضائل وخصال الكمال، ثم بالمصابرة وهي الصبر في وجه الصابر، وهذا أشدّ الصبر ثباتاً في النفس وأقربه إلى التزلزل، ذلك أنّ الصبر في وجه صابرٍ آخر شديد على نفس الصابر لما يلاقيه من مقاومة قِرن له في الصبر قد يساويه أو يفوقه، ثم إنّ هذا المصابر إن لم يثبت على صبره حتّى يملّ قرنه فإنّه لا يجتني من صبره شيئاً، لأنّ نتيجة الصبر تكون لأطول الصابرين صبراً، كما قال زُفر بن الحارث في اعتذاره عن الانهزام‏:‏

سَقَيْنَاهُم كَأساً سقَوْنا بِمِثْلِها *** ولكنَّهم كانوا على الموت أَصْبَرا

فالمصابرة هي سبب نجاح الحرب كما قال شاعر العرب الذي لم يعرف اسمه‏:‏

لا أنت معتادُ في الهيجا مُصابَرةٍ

يَصْلى بها كلّ من عاداك نيراناً

وقوله‏:‏ ‏{‏ورابطوا‏}‏ أمر لهم بالمرابطة، وهي مفاعلة من الرّبْط، وهو ربط الخيل للحراسة في غير الجهاد خشية أن يفجأهم العدوّ، أمر الله به المسلمين ليكونوا دائماً على حذر من عدوّهم تنبيهاً لهم على ما يكيد به المشركون من مفاجأتهم على غِرّة بعد وقعة أُحُد كما قدّمناه آنفاً، وقد وقع ذلك منهم في وقعة الأحزاب فلمّا أمرهم الله بالجهاد أمرهم بأن يكونوا بعد ذلك أيقاظاً من عدوّهم‏.‏ وفي كتاب الجهاد من «البخاري»‏:‏ بابُ فضل رباط يوم في سبيل الله وقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا‏}‏ إلخ‏.‏ وكانت المرابطة معروفة في الجاهلية وهي ربط الفرس للحراسة في الثغور أي الجهات التي يستطيع العدوّ الوصول منها إلى الحيّ مثل الشعاب بين الجبال‏.‏ وما رأيت مَن وصف ذلك مثل لبيد في معلّقته إذ قال‏:‏

ولَقد حَمَيْتُ الحَيّ تَحْمِل شِكَّتي *** فُرُط وِشَاحِي إذْ غَدَوْتُ لجامُها

فَعَلَوْتُ مُرْتَقَبَا على ذي هَبْوَةٍ *** حَرِج إلى إعلامهن قَتَامُها

حَتَّى إذا ألْقَتْ يداً في كافر *** وأجَنّ عَوْرَاتتِ الثُّغورِ ظلامُها

فذكر أنّه حرس الحيّ على مكان مرتقَب، أي عال بربط فرسه في الثغر‏.‏ وكان المسلمون يرابطون في ثغور بلاد فارس والشام والأندلس في البَرّ، ثم لمّا اتّسع سلطان الإسلام وامتلكوا البحار صار الرباط في ثغور البخار وهي الشطوط التي يخشى نزول العدوّ منها‏:‏ مثل رباط المنستير بتونس بإفريقية، ورباط سلا بالمغرب، ورُبط تونس ومحارسها‏:‏ مثل مَحْرس علي بن سالم قرب صفاقس‏.‏ فأمر الله بالرباط كما أمر بالجهاد بهذا المعنى وقد خفي على بعض المفسّرين فقال بعضهم‏:‏ أراد بقوله‏:‏ ‏{‏ورابطوا‏}‏ إعداد الخيل مربوطة للجهاد، قال‏:‏ ولم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غزو في الثغور‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ أراد بقوله‏:‏ ‏{‏ورابطوا‏}‏ انتظار الصلاة بعد الفراغ من التي قبلها، لما روى مالك في «الموطأ»، عن أبي هريرة‏:‏ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة، وقال‏:‏ ‏"‏ فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط ‏"‏ ونُسب هذا لأبي سلمة بن عبد الرحمن‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والحقّ أن معنى هذا الحديث على التشبيه، كقوله‏:‏ ‏"‏ ليس الشديد بالصرعة ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ ليس المسكين بهذا الطّواف الذي تردّه اللقمة واللقمتان ‏"‏، أي وكقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ‏"‏‏.‏

وأعقب هذا الأمر بالأمر بالتقوى لأنّها جماع الخيرات وبها يرجى الفلاح‏.‏

سورة النساء

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ واحدة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً‏}‏‏.‏

جاء الخطاب بيأيُّها الناس‏:‏ ليشمل جميع أمّة الدعوة الذين يسمعون القرآن يومئذ وفيما يأتي من الزمان‏.‏ فضمير الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏خلقكم‏}‏ عائد إلى الناس المخاطبين بالقرآن، أي لئلاّ يختصّ بالمؤمنين، إذ غير المؤمنين حينئذ هم كفّار العرب وهم الذين تلقّوا دعوة الإسلام قبل جميع البشر لأنّ الخطاب جاء بلغتهم، وهم المأمورون بالتبليغ لبقية الأمم، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتبه للروم وفارس ومصر بالعربية لتترجم لهم بلغاتهم‏.‏ فلمَّا كان ما بعد هذا النداء جامعاً لما يؤمر به الناس بين مؤمن وكافر، نودي جميع الناس، فدعاهم الله إلى التذكّر بأنّ أصلهم واحد، إذ قال‏:‏ ‏{‏اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة‏}‏ دعوة تظهر فيها المناسبة بين وحدة النوع ووحدة الاعتقاد، فالمقصود من التقوى في ‏{‏اتّقوا ربّكم‏}‏ اتّقاء غضبه، ومراعاة حقوقه، وذلك حقّ توحيده والاعتراف له بصفات الكمال، وتنزيهه عن الشركاء في الوجود والأفعال والصفات‏.‏

وفي هذه الصلة براعة استهلال مناسبة لما اشتملت عليه السورة من الأغراض الأصلية، فكانت بمنزلة الديباجة‏.‏

وعبّر ب ‏(‏ربّكم‏)‏، دون الاسم العلم، لأنّ في معنى الربّ ما يبعث العباد على الحرص في الإيمان بوحدانيته، إذ الربّ هو المالك الذي يربّ مملوكه أي، يدبّر شؤونه، وليتأتّى بذكر لفظ ‏(‏الربّ‏)‏ طريق الإضافة الدالّة على أنّهم محقوقون بتقواه حقّ التقوى، والدالّة على أنّ بين الربّ والمخاطبين صلة تعدّ إضاعتها حماقة وضلالاً‏.‏ وأمّا التقوى في قوله‏:‏ ‏{‏واتقوا اللَّه الذي تساءلون به والأرحام‏}‏ فالمقصد الأهمّ منها‏:‏ تقوى المؤمنين بالحذر من التساهل في حقوق الأرحام واليتامى من النساء والرجال‏.‏ ثم جاء باسم الموصول ‏{‏الذي خلقكم‏}‏ للإيماء إلى وجه بناء الخبر لأنّ الذي خلق الإنسان حقيق بأن يتّقى‏.‏

ووَصْل ‏{‏خلقكم‏}‏ بصلة ‏{‏من نفس واحدة‏}‏ إدماج للتنبيه على عجيب هذا الخلق وحقّه بالاعتبار‏.‏ وفي الآية تلويح للمشركين بأحقّيّة اتّباعهم دعوة الإسلام، لأنّ الناس أبناء أب واحد، وهذا الدين يدعو الناس كلّهم إلى متابعته ولم يخصّ أمّة من الأمم أو نسباً من الأنساب، فهو جدير بأن يكون دين جميع البشر، بخلاف بقية الشرائع فهي مصرّحة باختصاصها بأمم معيّنة‏.‏ وفي الآية تعريض للمشركين بأنّ أولى الناس بأن يتّبعوه هو محمد صلى الله عليه وسلم لأنّه من ذوي رحمهم‏.‏ وفي الآية تمهيد لما سَيُبَيَّنُ في هذه السورة من الأحكام المرتّبة على النسب والقرابة‏.‏

والنفس الواحدة‏:‏ هي آدم‏.‏ والزوج‏:‏ حوّاء، فإنّ حوّاء أخرجت من آدم‏.‏ من ضلعه، كما يقتضيه ظاهر قوله‏:‏ ‏{‏منها‏}‏‏.‏

و ‏(‏مِن‏)‏ تبعيضية‏.‏ ومعنى التبعيض أنّ حوّاء خلقت من جزء من آدم‏.‏

قيل‏:‏ من بقية الطينة التي خلق منها آدم‏.‏ وقيل‏:‏ فصلت قطعة من ضلعه وهو ظاهر الحديث الوارد في «الصحيحين»‏.‏

ومن قال‏:‏ إنّ المعنى وخلق زوجها من نوعها لم يأت بطائل، لأنّ ذلك لا يختصّ بنوع الإنسان فإنّ أنثى كلّ نوع هي من نوعه‏.‏

وعُطف قوله‏:‏ ‏{‏وخلق منها زوجها‏}‏ على ‏{‏خلقكم من نفس واحدة‏}‏، فهو صلة ثانية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وبث منهما‏}‏ صلة ثالثة لأنّ الذي يخلق هذا الخلق العجيب جدير بأن يتّقى، ولأنّ في معاني هذه الصلات زيادة تحقيق اتّصال الناس بعضهم ببعض، إذ الكلّ من أصل واحد، وإن كان خَلْقهم ما حصل إلاّ من زوجين فكلّ أصل من أصولهم ينتمي إلى أصل فوقه‏.‏

وقد حصل من ذكر هذه الصلات تفصيل لكيفية خلق الله الناس من نفس واحدة‏.‏ وجاء الكلام على هذا النظم توفية بمقتضى الحال الداعي للإتيان باسم الموصول، ومقتضى الحال الداعي لتفصيل حالة الخلق العجيب‏.‏ ولو غير هذا الأسلوب فجيء بالصورة المفصّلة دون سبق إجمال، فقيل‏:‏ الذي خلقكم من نفس واحدة وبثّ منها رجالاً كثيراً ونساء لفاتت الإشارة إلى الحالة العجيبة‏.‏ وقد ورد في الحديث‏:‏ أنّ حواء خلقت من ضلع آدم، فلذلك يكون حرف ‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وخلق منها‏}‏ للابتداء، أي أخرج خلق حواء من ضلع آدم‏.‏ والزوج هنا أريد به الأنثى الأولى التي تناسل منها البشر، وهي حوّاء‏.‏ وأطلق عليها اسمُ الزوج لأنّ الرجل يكون منفرداً فإذا اتّخذ امرأة فقد صارا زوجاً في بيت، فكلّ واحد منهما زوج للآخر بهذا الاعتبار، وإن كان أصل لفظ الزوج أن يطلق على مجموع الفردين، فإطلاق الزوج على كلّ واحد من الرجل والمرأة المتعاقدين تسامح صار حقيقة عرفية، ولذلك استوى فيه الرجل والمرأة لأنّه من الوصف بالجامد، فلا يقال للمرأة ‏(‏زوجة‏)‏، ولم يسمع في فصيح الكلام، ولذلك عدّه بعض أهل اللغة لحناً‏.‏ وكان الأصمعي ينكره أشد الإنكار قيل له‏:‏ فقد قال ذو الرمّة‏:‏

أذو زوجة بالمصِر أمْ ذو خصومة *** أراك لها بالبصرة العام ثاويا

فقال‏:‏ إنّ ذا الرّمة طالما أكل المالح والبقْل في حوانيت البقّالين، يريد أنّه مولّد‏.‏

وقال الفرزدق‏:‏

وإنّ الذي يسعى ليفسد زوجتي *** كساع إلى أسد الشرى يستبيلها

وشاع ذلك في كلام الفقهاء، قصدوا به التفرقة بين الرجل والمرأة عند ذكر الأحكام، وهي تفرقة حسنة‏.‏ وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏35‏)‏‏.‏

وقد شمل وخلق منها زوجها‏}‏ العبرة بهذا الخلق العجيب الذي أصله واحد، ويخرج هو مختلف الشكل والخصائص، والمنّة على الذكران بخلق النساء لهم، والمنّة على النساء بخلق الرجال لهنّ، ثم منّ على النوع بنعمة النسل في قوله‏:‏ ‏{‏وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء‏}‏ مع ما في ذلك من الاعتبار بهذا التكوين العجيب‏.‏

والبثّ‏:‏ النشر والتفريق للأشياء الكثيرة قال تعالى‏:‏

‏{‏يوم يكون الناس كالفراش المبثوب‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 4‏]‏‏.‏

ووصف الرجال، وهو جمع، بكثير، وهو مفرد، لأنّ كثير يستوي فيه المفرد والجمع، وقد تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏146‏)‏‏.‏ واستغنى عن وصف النساء بكثير لدلالة وصف الرجل به ما يقتضيه فعل البث من الكثرة‏.‏

شروع في التشريع المقصود من السورة، وأعيد فعل ‏{‏اتّقوا‏}‏‏:‏ لأنّ هذه التقوى مأمور بها المسلمون خاصّة، فإنّهم قد بقيت فيهم بقية من عوائد الجاهلية لا يشعرون بها، وهي التساهل في حقوق الأرحام والأيتام‏.‏

واستحضر اسم الله العلم هنا دون ضمير يعود إلى ربّكم لإدخال الرّوع في ضمائر السامعين‏.‏ لأنّ المقام مقام تشريع يناسبه إيثار المهابة بخلاف مقام قوله‏:‏ ‏{‏اتقوا ربكم‏}‏ فهو مقام ترغيب‏.‏ ومعنى ‏{‏تسَّاءلون به‏}‏ يَسْأل بعضكم بعضاً به في القسم فالمسايلة به تؤذن بمنتهى العظمة، فكيف لا تتّقونه‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏تسَّاءلون‏}‏ بتشديد السين لإدغام التاء الثانية، وهي تاء التفاعل في السين، لقرب المخرج واتّحاد الصفة، وهي الهمس‏.‏ وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف‏:‏ تساءلون بتخفيف السين على أنّ تاء الافتعال حذفت تخفيفاً‏.‏

‏{‏والأرحام‏}‏ قرأه الجمهور بالنصب عطفاً على اسم الله‏.‏ وقرأه حمزة بالجرّ عطفاً على الضمير المجرور‏.‏ فعلى قراءة الجمهور يكون الأرحام مأموراً بتقواها على المعنى المصدري أي اتّقائها، وهو على حذف مضاف، أي اتّقاء حقوقها، فهو من استعمال المشترك في معنييه، وعلى هذه القراءة فالآية ابتداء تشريع وهو ممّا أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخلق منها زوجها‏}‏ وعلى قراءة حمزة يكون تعظيماً لشأن الأرحام أي التي يسأل بعضكم بعضاً بها، وذلك قول العرب‏:‏ «ناشدتك اللَّه والرحم» كما روى في «الصحيح»‏:‏ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين قرأ على عتبة بن ربيعة سورة فصّلت حتّى بلغ‏:‏ ‏{‏فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 13‏]‏ فأخذت عتبة رهبة وقال‏:‏ ناشدتك اللَّه والرحم‏.‏ وهو ظاهر محمل هذه الرواية وإن أباه جمهور النحاة استعظاماً لعطف الاسم على الضمير المجرور بدون إعادة الجارّ، حتّى قال المبرّد‏:‏ «لو قرأ الإمام بهاته القراءة لأخذت نعلي وخرجت من الصلاة» وهذا من ضيق العطن وغرور بأنّ العربية منحصرة فيما يعلمه، ولقد أصاب ابن مالك في تجويزه العطف على المجرور بدون إعادة الجارّ، فتكون تعريضاً بعوائد الجاهلية، إذ يتساءلون بينهم بالرحم وأواصر القرابة ثم يهملون حقوقها ولا يصلونها، ويعتدون على الأيتام من إخوتهم وأبناء أعمامهم، فناقضت أفعالُهم أقوالَهم، وأيضاً هم قد آذوا النبي صلى الله عليه وسلم وظلموه، وهو من ذوي رحمهم وأحقّ الناس بصلتهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وعلى قراءة حمزة يكون معنى الآية تتمّة لمعنى التي قبلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

مناسبة عطف الأمر على ماقبله أنّه من فروع تقوى الله في حقوق الأرحام، لأنّ المتصرّفين في أموال اليتامى في غالب الأحوال هم أهل قرابتهم، أو من فروع تقوى الله الذي يتساءلون به وبالأرحام فيجعلون للأرحام من الحظّ ما جعلهم يقسمون بها كما يقسمون بالله‏.‏ وشيء هذا شأنه حقيق بأن تُراعى أواصره ووشائجه وهم لم يرقبوا ذلك‏.‏ وهذا ممَّا أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏‏.‏

والإيتاء حقيقته الدفع والإعطاء الحسي، ويطلق على تخصيص الشيء بالشيء وجعله حقّاً له، مثل إطلاق الإعطاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أعطيناك الكوثر‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 1‏]‏ وفي الحديث‏:‏ «رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هَلَكَتِه في الحقّ ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها»‏.‏ واليتامى جمع يتيم وجمع يتيمة، فإذا جمعت به يتيمة فهو فعائل أصله يَتَائِم، فوقع فيه قلب مَكَانِيّ فقالوا يَتَامِئ ثم خفّفوا الهمزة فصارت ألفاً وحرّكت الميم بالفتح، وإذا جمع به يتيم فهو إمّا جَمْع الجمع بأن جمع أوّلاً على يَتْمَى، كما قالوا‏:‏ أسير وأسْرى، ثم جمع على يتامى مثل أسارى بفتح الهمزة، أو جمع فعيل على فعائل لكونه صار اسماً مثل أفيل وأفائل، ثم صنع به من القلب ما ذكرناه آنفاً‏.‏ وقد نطقت العرب بجمع يتيمة على يتائم، وبجمع فعيل على فعائل في قول بشر النجدي‏:‏

أأطْلالَ حُسْن في البِراق اليَتَائِم *** سَلام على أطلالِكُنّ القَدَائِم

واشتقاق اليتيم من الإنفراد، ومنه الدرّة اليتيمة أي المنفردة بالحسن، وفعله من باب ضرب وهو قاصر، وأطلقه العرب على من فُقد أبوه في حال صغره كأنّه بقي منفرداً لا يجد من يدفع عنه، ولم يعتدّ العرب بفقد الأمّ في إطلاق وصف اليتيم إذ لا يعدم الولد كافلة، ولكنّه يعدم بفقد أبيه من يدافع عنه وينفقه‏.‏ وقد ظهر ممّا راعَوه في الاشتقاق أنّ الذي يبلغ مبلغ الرجال لا يستحقّ أن يسمّى يتيماً إذ قد بلغ مبلغ الدفع عن نفسه، وذلك هو إطلاق الشريعة لا سم اليتيم، والأصل عدم النقل‏.‏

وقيل‏:‏ هو في اللغة من فُقد أبوه، ولو كان كبيراً، أو كان صغيراً وكَبر، ولا أحسب هذا الإطلاق صحيحاً‏.‏ وقد أريد باليتامى هنا ما يشمل الذكور والإناث وغُلب في ضمير التذكير في قوله‏:‏ ‏{‏أموالهم‏}‏‏.‏

وظاهر الآية الأمر بدفع المال لليتيم، ولا يجوز في حكم الشرع أن يدفع المال له ما دام مطلقاً عليه اسم اليتيم، إذ اليتيم خاصّ بمن لم يبلغ، وهو حينئذ غير صالح للتصرّف في ماله، فتعيّن تأويل الآية إمّا بتأويل لفظ الإيتاء أو بتأويل اليتيم، فلنا أن نؤوّل ‏{‏آتوا‏}‏ بغير معنى ادفعوا‏.‏ وذلك بما نقل عن جابر بن زيد أنّه قال‏:‏ نزلت هذه الآية في الذين لا يُورّثون الصغار مع وجود الكبار في الجاهلية، فيكون ‏{‏آتوا‏}‏ بمعنى عيّنوا لهم حقوقهم، وليكون هذا الأمر وما يذكر بعده تأسيسات أحكام، لا تأكيد بعضها لبعض، أو تقييد بعضها لبعض‏.‏

وقال صاحب «الكشاف»‏:‏ «يراد بإيتائهم أموالهم أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته ويكفّوا عنها أيديهم الخاطفة حتّى تأتي اليتامى إذا بلغوا سالمة» فهو تأويل للإيتاء بلازمه وهو الحفظ الذي يترتّب عليه الإيتاء كناية بإطلاق اللازم وإرادة الملزوم، أو مجاز بالمآل إذ الحفظ يؤول إلى الإيتاء، وعليه فيكون هو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم‏}‏‏.‏ وعلى هذين الوجهين فالمراد هنا الأمر بحفظ حقوق اليتامى من الإضاعة لا تسليم المال إليهم وهو الظاهر من الآية إذ سيجيء في قوله‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏ الآية‏.‏ ولنا أن نؤوّل اليتامى بالذين جاوزوا حدّ اليُتْم ويبقى الإيتاء بمعنى الدفع، ويكون التعبير عنهم باليتامى للإشارة إلى وجوب دفع أموالهم إليهم في فور خروجهم من حدّ اليتيم، أو يبقى على حاله ويكون هذا الإطلاق مقيّداً بقوله الآتي‏:‏ ‏{‏حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏‏.‏ ومن الناس من قال‏:‏ اليتيم يطلق على الصغير والكبير لأنّه مشتقّ من معنى الانفراد أي انفراده عن أبيه، ولا يخفى أنّ هذا القول جمود على توهّم أنّ الانفراد حقيقيّ وإنّما وضع اللفظ للانفراد المجازي، وهو انعدام الأب المنزّل منزلة بقاء الولد منفرداً وما هو بمنفرد فإنّ له أمّا وقوماً‏.‏

قيل‏:‏ نزلت هذه الآية في رجل من غطفان كان له ابن أخ في حجره، فلمّا بلغ طلب ماله، فمنعه عمّه، فنزلت هذه الآية، فرَدّ المال لابن أخيه، وعلى هذا فهو المراد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالهم‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب‏}‏ أي لا تأخذوا الخبيث وتعطوا الطيّب‏.‏ والقول في تعدية فعل تبدّل ونظائره مضى عند قوله تعالى في سورة فالبقرة ‏(‏61‏)‏ قال‏:‏ ‏{‏أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير‏}‏ وعلى ما تقرّر هناك يتعيّن أن يكون الخبيث هو المأخوذ، والطيّب هو المتروك‏.‏

والخبيث والطيّب أريد بهما الوصف المعنوي دون الحسي، وهما استعارتان؛ فالخبيث المذموم أو الحرام، والطيّب عكسه وهو الحلال‏:‏ وتقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً‏}‏ في البقرة ‏(‏168‏)‏‏.‏ فالمعنى‏:‏ ولا تكسبوا المال الحرام وتتركوا الحلال أي لو اهتممتم بإنتاج أموالكم وتوفيرها بالعمل والتجر لكان لكم من خلالها ما فيه غنية عن الحرام، فالمنهي عنه هنا هو ضدّ المأمور به من قبل تأكيداً للأمر، ولكنّ النهي بيَّن ما فيه من الشناعة إذا لم يمتثل الأمر، وهذا الوجه ينبئ عن جعل التبدّل مجازاً والخبيث والطيّب كذلك، ولا ينبغي حمل الآية على غير هذا المعنى وهذا الاستعمال‏.‏ وعن السديّ ما يقتضي خلاف هذا المعنى وهو غير مرضي‏.‏

وقوله‏:‏ ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم‏}‏ نهي ثالث عن أخذ أموال اليتامى وضمّها إلى أموال أوليائهم، فينتسق في الآية أمر ونهيان‏:‏ أمروا أن لا يمنعوا اليتامى من مواريثهم ثم نهوا عن اكتساب الحرام، ثم نهوا عن الاستيلاء على أموالهم أو بعضها، والنهي والأمر الأخير تأكيدان للأمر الأول‏.‏

والأكل استعارة للانتفاع المانع من انتفاع الغير وهو الملك التامّ، لأنّ الأكل هو أقوى أحوال الاختصاص بالشيء لأنّه يحرزه في داخل جسده، ولا مطمع في إرجاعه، وضمّن ‏(‏تأكلوا‏)‏ معنى تضمّوا فلذلك عدي بإلى أي‏:‏ لا تأكلوها بأن تضمّوها إلى أموالكم‏.‏

وليس قيد ‏{‏إلى أموالكم‏}‏ محطّ النهي، بل النهي واقع على أكل أموالهم مطلقاً سواء كان للآكل مال يَضُمّ إليه مالَ يتيمه أم لم يكن، ولكن لمّا كان الغالب وجود أموال للأوصياء، وأنّهم يريدون من أكل أموال اليتامى التكثّر، ذكر هذا القيد رعياً للغالب، ولأنّه أدخل في النهي لما فيه من التشنيع عليهم حيث يأكلون حقوق الناس مع أنّهم أغنياء؛ على أنّ التضمين ليس من التقييد بل هو قائم مقام نهيين، ولذلك روي‏:‏ أنّ المسلمين تجنّبوا بعد هذه الآية مخالطة أموال اليتامى فنزلت آية البقرة ‏(‏220‏)‏‏:‏ ‏{‏وإن تخالطوهم فإخوانكم‏}‏ فقد فهموا أنّ ضمّ مال اليتيم إلى مال الوصيّ حرام، مع علمهم بأنّ ذلك ليس مشمولاً للنهي عن الأكل ولكن للنهي عن الضمّ‏.‏ وهما في فهم العرب نهيان، وليس هو نهياً عن أكل الأغنياء أموال اليتامى حتى يكون النهي عن أكل الفقراء ثابتاً بالقياس لا بمفهوم الموافقة إذ ليس الأدْوَنُ بصالح لأن يكون مفهوم موافقة‏.‏

والحُوب بضمّ الحاء لغة الحجاز، وبفتحها لغة تميم، وقيل‏:‏ هي حبشية، ومعناه الإثم، والجملة تعليل للنهي‏:‏ لموقع إنّ منها، أي نهاكم الله عن أكل أموالهم لأنّه إثم عظيم‏.‏ ولكون إنّ في مثله لمجرد الاهتمام لتفيد التعليل أكِّد الخبر بكان الزائدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ‏(‏3‏)‏‏}‏

اشتمال هذه الآية على كلمة ‏{‏اليتامى‏}‏ يؤذن بمناسبتها للآية السابقة، بيد أنّ الأمر بنكاح النساء وعددهنّ في جواب شرط الخوف من عدم العدل في اليتامى ممّا خفي وجهُه على كثير من علماء سلف الأمة، إذ لا تظهر مناسبة أي ملازمة بين الشرط وجوابه‏.‏ واعلم أنّ في الآية إيجازاً بديعاً إذ أطلق فيها لفظ اليتامى في الشرط وقوبل بلفظ النساء في الجزاء فعلم السامع أنّ اليتامى هنا جمع يتيمة وهي صنف من اليتامى في قوله السابق‏:‏ ‏{‏وآتوا اليتامى أموالهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وعلم أنّ بين عدم القسط في يتامى النساء، وبين الأمر بنكاح النساء، ارتباطاً لا محالة وإلاّ لكان الشرط عبثاً‏.‏ وبيانه ما في «صحيح البخاري»‏:‏ أنّ عروة بن الزبير سأل عائشة عن هذه الآية فقالت‏:‏ «يابنَ أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها تشرَكه في ماله ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليّها أن يتزوجها بغير أن يُقسط في صداقها فلا يعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنُهوا أن ينكحوهنّ إلاّ أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهنّ أعلى سنتهنّ في الصداق فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء غيرهنّ‏.‏ ثم إنّ الناس استفتوا رسول الله بعد هذه الآية فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏‏.‏ فقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏ رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلاّ بالقسط من أجل رغبتهم عنهنّ إذا كنّ قليلات المال والجمال»‏.‏ وعائشة لم تسند هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن سياق كلامها يؤذن بأنّه عن توقيف، ولذلك أخرجه البخاري في باب تفسير سورة النساء بسياق الأحاديث المرفوعة اعتداداً بأنها ما قالت ذلك إلاّ عن معاينة حال النزول، وأَفهام المسلمين التي أقرّها الرسول عليه السلام، لا سيما وقد قالت‏:‏ ثمّ إنّ الناس استفتوا رسول الله، وعليه فيكون إيجاز لفظ الآية اعتداداً بما فهمه الناس ممّا يعلمون من أحوالهم، وتكون قد جمعت إلى حكم حفظ حقوق اليتامى في أموالهم الموروثة حفظ حقوقهم في الأموال التي يستحقّها البنات اليتامى من مهور أمثالهنّ، وموعظة الرجال بأنّهم لمّا لم يجعلوا أواصر القرابة شافعة النساء اللاتي لا مرغِّب فيهنّ لهم فيرغبون عن نكاحهنّ، فكذلك لا يجعلون القرابة سبباً للإجحاف بهنّ في مهورهنّ‏.‏ وقولها‏:‏ ثمّ إنّ الناس استفتوا رسول الله، معناه استفتوه طلباً لإيضاح هذه الآية‏.‏ أو استفتوه في حكم نكاح اليتامى، وله يهتدوا إلى أخذه من هذه الآية، فنزل قوله‏:‏ ‏{‏ويستفتونك في النساء‏}‏ الآية، وأنّ الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء‏}‏ أي ما يتلى من هذه الآية الأولى، أي كان هذا الاستفتاء في زمن نزول هذه السورة‏.‏

وكلامها هذا أحسن تفسير لهذه الآية‏.‏ وقال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والسدّي، وقتادة‏:‏ كانت العرب تتحرّج في أموال اليتامى ولا تتحّرج في العدل بين النساء، فكانوا يتزوّجون العشر فأكثر فنزلت هذه الآية في ذلك، وعلى هذا القول فمحلّ الملازمة بين الشرط والجزاء إنّما هو فيما تفرّع عن الجزاء من قوله‏:‏ ‏{‏فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة‏}‏، فيكون نسج الآية قد حيك على هذا الأسلوب ليدمج في خلاله تحديد النهاية إلى الأربع‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ نزلت في قريش، كان الرجل يتزوّج العشر فأكثر فإذا ضاق ماله عن إنفاقهنّ أخذ مال يتيمه فتزوّج منه، وعلى هذا الوجه فالملازمة ظاهرة، لأنّ تزوّج ما لا يستطاع القيام به صار ذريعة إلى أكل أموال اليتامى، فتكون الآية دليلاً على مشروعية سدّ الذرائع إذا غلبت‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الآية تحذير من الزنا، وذلك أنّهم كانوا يتحرّجون من أكل أموال اليتامى ولا يتحرّجون من الزنا، فقيل لهم‏:‏ إن كنتم تخافون من أموال اليتامى فخافوا الزنا، لأنّ شأن المتنسّك أن يهجر جميع المآثم لا سيما ما كانت مفسدته أشدّ‏.‏ وعلى هذا الوجه تضعف الملازمة بين الشرط وجوابه ويكون فعل الشرط ماضياً لفظاً ومعنى‏.‏ وقيل في هذا وجوه أخر هي أضعف ممّا ذكرنا‏.‏

ومعنى ‏{‏ما طاب‏}‏ ما حسن بدليل قوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ ويفهم منه أنّه ممّا حلّ لكم لأن الكلام في سياق التشريع‏.‏

وما صَدْقُ ‏{‏ما طاب‏}‏ النساء فكان الشأن أن يؤتى ب ‏(‏مَن‏)‏ الموصولة لكن جيء ب ‏(‏ما‏)‏ الغالبة في غير العقلاء، لأنّها نُحِي بها مَنْحى الصفة وهو الطيّب بِلا تعيين ذات، ولو قال ‏(‏مَنْ‏)‏ لتبادر إلى إرادة نسوة طيّبات معروفات بينهم، وكذلك حال ‏(‏ما‏)‏ في الاستفهام، كما قال صاحب «الكشاف» وصاحب «المفتاح»‏.‏ فإذا قلت‏:‏ ما تزوجت‏؟‏ فأنت تريد ما صفتها أبكرا أم ثيّباً مثلاً، وإذا قلت‏:‏ مَن تزوجت‏؟‏ فأنت تريد تعيين اسمها ونسبها‏.‏

والآية ليست هي المثبتة لمشروعية النكاح، لأنّ الأمر فيها معلّق على حالة الخوف من الجور في اليتامى، فالظاهر أنّ الأمر فيها للإرشاد، وأنّ النكاح شرع بالتقرير للإباحة الأصلية لما عليه الناس قبل الإسلام مع إبطال ما لا يرضاه الدين كالزيادة على الأربع، وكنكاح المقت، والمحرّمات من الرضاعة، والأمر بأن لا يُخْلوه عن الصداق، ونحو ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مثنى وثلاث ورباع‏}‏ أحوال من ‏{‏طاب‏}‏ ولا يجوز كونها أحوالاً من النساء لأنّ النساء أريد به الجنس كلّه لأن ‏(‏مِنْ‏)‏ إمَّا تبعيضية أو بيانية وكلاهما تقتضي بقاء البيان على عمومه، ليصلح للتبعيض وشبهه، والمعنى‏:‏ أنّ الله وسّع عليكم فلكم في نكاح غير أولئك اليتامى مندوحة عن نكاحهنّ مع الإضرار بهنّ في الصداق، وفي هذا إدماج لحكم شرعي آخر في خلال حكم القسط لليتامى إلى قوله‏:‏ ‏{‏ذلك أدنى ألا تعولوا‏}‏‏.‏

وصيغة مَفْعَل وفُعَال في أسماء الأعداد من واحد إلى أربعة، وقيل إلى ستة وقيل إلى عشرة، وهو الأصح، وهو مذهب الكوفيّين، وصحّحه المعرّي في «شرح ديوان المتنبيّ» عند قول أبي الطّيب‏:‏

أُحَاد أم سُدَاسٌ في آحاد *** لُيَبْلَتُنَا المَنوطةُ بالتنادي

تدُلّ كلّها على معنى تكرير اسم العدد لقصد التوزيع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولي أجنحة مَثْنَى وثُلاث ورُباع‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 1‏]‏ أي لطائفة جناحان، ولطائفة ثلاثة، ولطائفة أربعة‏.‏ والتوزيع هنا باعتبار اختلاف المخاطبين في السعة والطَّول، فمنهم فريق يستطيع أن يتزوّجوا اثنتين، فهؤلاء تكون أزواجهم اثنتين اثنتين، وهلمّ جرّا، كقولك لجماعة‏:‏ اقتسِموا هذا المال درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، على حسب أكبركم سنّاً‏.‏ وقد دل على ذلك قوله بعد‏:‏ ‏{‏فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة‏}‏‏.‏ والظاهر أنّ تحريم الزيادة على الأربع مستفاد من غير هذه الآية لأنّ مجرّد الاقتصار غير كاف في الاستدلال ولكنّه يُستأنس به، وأنّ هذه الآية قرّرت ما ثبت من الاقتصار، على أربع زوجات كما دلّ على ذلك الحديث الصحيح‏:‏ إنّ غيلان بن سلمة أسلم على عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أمسك أربعاً وفارق سائرهنّ ‏"‏‏.‏ ولعلّ الآية صدرت بذكر العدد المقرّر من قبل نزولها، تمهيداً لشرع العدل بين النساء، فإنّ قوله‏:‏ ‏{‏فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة‏}‏ صريح في اعتبار العدل في التنازل في مراتب العدد ينزل بالمكلّف إلى الواحدة‏.‏ فلا جرم أن يكون خوفه في كلّ مرتبة من مراتب العدد ينزل به إلى التي دونها‏.‏ ومن العجيب ما حكاه ابن العربي في الأحكام عن قوم من الجهّال لم يعيّنهم أنّهم توهّموا أنّ هذه الآية تبيح للرجال تزوّج تسع نساء توهّما بأنّ مثنَى وثُلاث ورُباع مرادفة لاثنين وثلاثاً وأربعاً، وأنّ الواو للجمع، فحصلت تسعة وهي العدد الذي جمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نسائه، وهذا جهل شنيع في معرفة الكلام العربي‏.‏ وفي «تفسير القرطبي» نسبة هذا القول إلى الرافضة، وإلى بعض أهل الظاهر، ولم يعيّنه‏.‏ وليس ذلك قولاً لداوود الظاهري ولا لأصحابه، ونسبه ابن الفرس في أحكام القرآن إلى قوم لا يعبأ بخلافهم، وقال الفخر‏:‏ هم قوم سُدى، ولم يذكر الجصّاص مخالفاً أصلاً‏.‏ ونسب ابن الفرس إلى قوم القول بأنّه لا حصر في عدد الزوجات وجعلوا الاقتصار في الآية بمعنى‏:‏ إلى ما كان من العدد، وتمسّك هذان الفريقان بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع نسوة، وهو تمسّك واه، فإنّ تلك خصوصية له، كما دلّ على ذلك الإجماع، وتطلُّب الأدلّة القواطع في انتزاع الأحكام من القرآن تطلّب لما يقف بالمجتهدين في استنباطهم موقف الحيرة، فإنّ مبنى كلام العرب على أساس الفطنة‏.‏

ومسلكه هو مسلك اللمحة الدالّة‏.‏

وظاهر الخطاب للناس يعم الحرّ والعبد، فللعبد أن يتزوّج أربع نسوة على الصحيح، وهو قول مالك، ويعزى إلى أبي الدرداء، والقاسم بن محمد، وسالم، وربيعة بن أبي عبد الرحمان، ومجاهد، وذهب إليه داوود الظاهري‏.‏ وقيل‏:‏ لا يتزوّج العبد أكثر من اثنتين، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وينسب إلى عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وابن سيرين، والحسن‏.‏ وليس هذا من مناسب التنصيف للعبيد، لأنّ هذا من مقتضى الطبع الذي لا يختلف في الأحرار والعبيد‏.‏ ومن ادّعى إجماع الصحابة على أنّه لا يتزوّج أكثر من اثنتين فقد جازف القول‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة‏}‏، أي فواحدة لكلّ من يخاف عدم العدل‏.‏ وإنّما لم يقل فأُحاد أو فمَوْحَد لأنّ وزن مَفعل وفُعال في العدد لا يأتي إلاّ بعد جمع ولم يجر جمع هنا‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ فواحدة بالنصب، وانتصب واحدة على أنّه مفعول لمحذوف أي فانكحوا واحدة‏.‏ وقرأه أبو جعفر بالرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي كفاية‏.‏

وخوف عدم العدل معناه عدم العدل بين الزوجات، أي عدم التسوية، وذلك في النفقة والكسوة والبشاشة والمعاشرة وترك الضرّ في كلّ ما يدخل تحت قدرة المكلّف وطوقه دون ميل القلب‏.‏

وقد شرع الله تعدّد النساء للقادر العادل لِمصالح جمّة‏:‏ منها أنّ في ذلك وسيلة إلى تكثير عدد الأمة بازدياد المواليد فيها، ومنها أنّ ذلك يعين على كفالة النساء اللائي هنّ أكثر من الرجال في كلّ أمّة لأنّ الأنوثة في المواليد أكثر من الذكورة، ولأنّ الرجال يعرض لهم من أسباب الهلاك في الحروب والشدائد ما لا يعرض للنساء، ولأنّ النساء أطول أعماراً من الرجال غالباً، بما فطرهنّ الله عليه، ومنها أنّ الشريعة قد حرّمت الزنا وضيّقت في تحريمه لمّا يجرّ إليه من الفساد في الأخلاق والأنساب ونظام العائلات، فناسب أن توسّع على الناس في تعدّد النساء لمن كان من الرجال ميّالاً للتعدّد مجبولاً عليه، ومنها قصد الابتعاد عن الطلاق إلاّ لضرورة‏.‏

ولم يكن في الشرائع السالفة ولا في الجاهلية حدّ للزوجات، ولم يثبت أن جاء عيسى عليه السلام بتحديد للتزوّج، وإن كان ذلك توهّمه بعض علمائنا مثل القرافي، ولا أحسبه صحيحاً، والإسلام هو الذي جاء بالتحديد، فأمّا أصل التحديد فحكمته ظاهرة‏:‏ من حيث إنّ العدل لا يستطيعه كلّ أحد، وإذا لم يقم تعدّدُ الزوجات على قاعدة العدل بينهنّ اختلّ نظام العائلة، وحدثت الفتن فيها، ونشأ عقوق الزوجات أزواجهنّ، وعقوق الأبناء آباءهم بأذاهم في زوجاتهم وفي أبنائهم، فلا جرم أن كان الأذى في التعدّد لمصلحة يجب أن تكون مضبوطة غير عائدة على الأصل بالإبطال‏.‏

وأمّا الانتهاء في التعدّد إلى الأربع فقد حاول كثير من العلماء توجيهه فلم يبلغوا إلى غاية مرضية، وأحسب أنّ حكمته ناظرة إلى نسبة عدد النساء من الرجال في غالب الأحوال، وباعتبار المعدّل في التعدّد فليس كلّ رجل يتزوّج أربعاً، فلنفرض المعدّل يكشف عن امرأتين لكلّ رجل، يدلّنا ذلك على أنّ النساء ضعف الرجال‏.‏ وقد أشار إلى هذا ما جاء في «الصحيح»‏:‏ أنه يكثر النساء في آخر الزمان حتّى يكون لخمسين امرأةً القيِّم الواحد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أو ما ملكت أيمانكم‏}‏ إن عطف على قوله‏:‏ ‏{‏فواحدة‏}‏، فقد خيّر بينه وبين الواحدة باعتبار التعدّد، أي فواحدة من الأزواج أو عدد ممّا ملكت أيمانكم، وذلك أنّ المملوكات لا يشترط فيهنّ من العدل ما يشترط في الأزواج، ولكن يشترط حسن المعاملة وترك الضرّ، وإن عطفتَه على قوله‏:‏ ‏{‏فانكحوا ما طاب‏}‏ كان تخييراً بين التزوّج والتسرّي بحسب أحوال الناس، وكان العدل في الإماء المتّخذات للتسرّي مشروطاً قياساً على الزوجات، وكذلك العدد بحسب المقدرة غير أنّه لا يمتنع في التسرّي الزيادة على الأربع لأنّ القيود المذكورة بين الجمل ترجع إلى ما تقدّم منها‏.‏ وقد منع الإجماع من قياس الإماء على الحراير في نهاية العدد، وهذا الوجه أدخل في حكمة التشريع وأنظم في معنى قوله‏:‏ ‏{‏ذلك أدنى ألا تعولوا‏}‏ والإشارة بقوله ‏{‏ذلك أدنى ألا تعولوا‏}‏ إلى الحكم المتقدّم، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فانكحوا ما طاب لكم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أو ما ملكت أيمانكم‏}‏ باعتبار ما اشتمل عليه من التوزيع على حسب العدل‏.‏ وإفراد اسم الإشارة باعتبار المذكور كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يفعل ذلك يلق أثاماً‏}‏‏.‏

و ‏(‏أدنى‏)‏ بمعنى أقرب، وهو قرب مجازي أي أحقّ وأعون على أن لا تعُولوا، و«تعولوا» مضارع عال عَوْلاً، وهو فعل واوي العين، بمعنى جار ومال، وهو مشهور في كلام العرب، وبه فسّر ابن عباس وجمهور السلف، يقال‏:‏ عَال الميزان عَولاً إذا مال، وعال فلان في حكمه أي جار، وظاهر أنّ نزول المكلّف إلى العدد الذي لا يخاف معه عدم العدل أقرب إلى عدم الجور، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏أدنى ألا تعولوا‏}‏ في معنى قوله‏:‏ ‏{‏فإن خفتم ألا تعدلوا‏}‏ فيفيد زيادة تأكيد كراهية الجور‏.‏

ويجوز أن تكون الإشارة إلى الحكم المتضمّن له قوله‏:‏ ‏{‏فواحدة أو ما ملكت أيمانكم‏}‏ أي ذلك أسلم من الجور، لأنّ التعدّد يعرّض المكلّف إلى الجور وإن بذل جهده في العدل، إذ للنفس رغبات وغفلات، وعلى هذا الوجه لا يكون قوله‏:‏ ‏{‏أدنى ألا تعولوا‏}‏ تأكيداً لمضمون ‏{‏فإن خفتم ألا تعدلوا‏}‏ ويكون ترغيباً في الاقتصار على المرأة الواحدة أو التعدّد بملك اليمين، إذ هو سدّ ذريعة الجور، وعلى هذا الوجه لا يكون العدل شرطاً في ملك اليمين، وهو الذي نحاه جمهور فقهاء الأمصار في ملك اليمين‏.‏

وقيل‏:‏ «معنى ألا تعولوا» أن لا تكثر عيالكم، مأخوذ من قولهم عال الرجل أهله يعولهم بمعنى مالهم، يعني فاستعمل نفي كثرة العيال على طريق الكناية لأنّ العول يستلزم وجود العيال، والإخبار عن الرجل بأنّه يعول يستلزم كثرة العيال، لأنّه إخبار بشيء لا يخلو عنه أحد فما يخبر المخبر به إلاّ إذا رآه تجاوز الحدّ المتعارف‏.‏ كما تقول فلان يأكل، وفلان ينام، أي يأكل كثيراً وينام كثيراً، ولا يصحّ أن يراد كونه معنى لعال صريحاً، لأنّه لا يقال عال بمعنى كثرت عياله، وإنّما يقال أعال‏.‏ وهذا التفسير مأثور عن زيد بن أسلم، وقاله الشافعي، وقال به ابن الأعرابي من علماء اللغة وهو تفسير بعيد، وكناية خفيّة، لا يلائم إلاّ أن تكون الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما تضمنّه قوله‏:‏ ‏{‏فواحدة أو ما ملكت أيمانكم‏}‏ ويكون في الآية ترغيب في الاقتصار على الواحدة لخصوص الذي لا يستطيع السعة في الإنفاق، لأنّ الاقتصار على الواحدة يقلل النفقة ويقلّل النسل فيُبقي عليه مالَه، ويدفع عنه الحاجة، إلاّ أنّ هذا الوجه لا يلائم قوله‏:‏ ‏{‏أو ما ملكت أيمانكم‏}‏ لأنّ تعدّد الإماء يفضي إلى كثرة العيال في النفقة عليهنّ وعلى ما يتناسل منهنّ، ولذلك ردّ جماعة على الشافعي هذا الوجه بين مُفرط ومقتصد‏.‏

وقد أغلظ في الردّ أبو بكر الجصّاص في أحكامه حتّى زعم أنّ هذا غلط في اللغة، اشتبه به عال يَعيل بعال يَعُول‏.‏ واقتصد ابن العربي في ردّ هذا القول في كتاب الأحكام‏.‏ وانتصر صاحب «الكشاف» للشافعي، وأُورد عليهم أنّ ذلك لا يلاقي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو ما ملكت أيمانكم‏}‏ فإن تعدّد الجواري مثل تَعدّد الحرائر فلا مفرّ من الإعالة على هذا التفسير‏.‏ وأجيب عنه بجواب فيه تكلّف‏.‏

وحكم هذه الآية ممّا أشار إليه قوله‏:‏ ‏{‏وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

جانبان مُسْتَضْعَفَان في الجاهلية‏:‏ اليتيم، والمرأة‏.‏ وحقّان مغبون فيهما أصحابهما‏:‏ مال الأيتام، ومال النساء، فلذلك حرسهما القرآن أشدّ الحراسة فابتدأ بالوصاية بحق مال اليتيم، وثنّى بالوصاية بحقّ المرأة في مال ينجرّ إليها لا محالة، وكان توسّط حكم النكاح بين الوصايتين أحسن مناسبة تهَيّئ لعطف هذا الكلام‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏وآتوا النساء‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏وآتوا اليتامى أموالهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏ والقول في معنى الإيتاء فيه سواء‏.‏ وزاده اتّصالاً بالكلام السابق أنّ ما قبله جرى على وجوب القسط في يتامى النساء، فكان ذلك مناسبة الانتقال‏.‏ والمخاطَب بالأمر في أمثال هذا كلّ من له نصيب في العمل بذلك، فهو خطاب لعموم الأمّة على معنى تناوله لكلّ من له فيه يد من الأزواج والأولياء ثم ولاة الأمور الذين إليهم المرجع في الضرب على أيدي ظلمة الحقوق أربابَها‏.‏ والمقصود بالخطاب ابتداء هم الأزواج، لكيلا يتذرّعوا بحياء النساء وضعفهنّ وطلبهنّ مرضاتَهم إلى غمص حقوقهنّ في أكل مهورهنّ، أو يجعلوا حاجتهنّ للتزوّج لأجل إيجاد كافل لهنّ ذريعة لإسقاط المهر في النكاح، فهذا ما يمكن في أكل مهورهنّ، وإلاّ فلهنّ أولياء يطالبون الأزواج بتعيين المهور، ولكن دون الوصول إلى ولاة الأمور متاعب وكلف قد يملّها صاحب الحقّ فيترك طلبه، وخاصّة النساء ذوات الأزواج‏.‏ وإلى كون الخطاب للأزواج ذهب ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وابن جريج، فالآية على هذا قرّرت دفع المهور وجعلته شرعاً، فصار المهر ركناً من أركان النكاح في الإسلام، وقد تقرّر في عدّة آيات كقوله‏:‏ ‏{‏فآتوهن أجورهن فريضة وغير ذلك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏‏.‏

والمهر علامة معروفة للتفرقة بين النكاح وبين المخادنة، لكنّهم في الجاهلية كان الزوج يعطي مالاً لولي المرأة ويسمّونه حلواناً بضم الحاء ولا تأخذ المرأة شيئاً، فأبطل الله ذلك في الإسلام بأن جعل المال للمرأة بقوله‏:‏ ‏{‏وآتوا النساء صداقتهن‏}‏‏.‏

وقال جماعة‏:‏ الخطاب للأولياء، ونقل ذلك عن أبي صالح قال‏:‏ لأنّ عادة بعض العرب أن يأكل وليّ المرأة مهرها فرفع الله ذلك بالإسلام‏.‏ وعن الحضرمي‏:‏ خاطبتْ الآية المتشاغرين الذين كانوا يتزوّجون امرأة بأخرى، ولعلّ هذا أخذ بدلالة الإشارة وليس صريحَ اللفظ، وكل ذلك ممّا يحتمله عموم النساء وعموم الصدقات‏.‏

والصدُقات جمع صدُقة بضمّ الدال والصدُقة‏:‏ مهر المرأة، مشتقّة من الصدق لأنّها عطية يسبقها الوعد بها فيصدقه المعطي‏.‏

والنِّحلة بكسر النون العطيّة بلا قصد عوض، ويقال‏:‏ نُحْل بضم فسكون‏.‏ وانتصب نحلة على الحال من «صدقاتهنّ»، وإنّما صحّ مجيء الحال مفردة وصاحبها جمع لأنّ المراد بهذا المفرد الجنس الصالح للأفراد كلّها، ويجوز أن يكون نِحلة منصوباً على المصدرية لآتوا لبيان النوع من الإيتاء أي إعطاءَ كرامة‏.‏

وسمّيت الصدُقات نحلة إبعاداً للصدقات عن أنواع الأعواض، وتقريباً بها إلى الهدية، إذ ليس الصداق عوضاً عن منافع المرأة عند التحقيق، فإنّ النكاح عقد بين الرجل والمرأة قصد منه المعاشرة، وإيجاد آصرة عظيمة، وتبادل حقوق بين الزوجين، وتلك أغلى من أن يكون لها عوض مالي، ولو جعل لكان عوضُها جزيلاً ومتجدّداً بتجدّد المنافع، وامتداد أزمانها، شأن الأعواض كلّها، ولكنّ الله جعله هدية واجبة على الأزواج إكراماً لزوجاتهم، وإنّما أوجبه الله لأنّه تقرّر أنّه الفارق بين النكاح وبين المخادنة والسفاح، إذ كان أصل النكاح في البشر اختصاص الرجل بامرأة تكون له دون غيره، فكان هذا الاختصاص يُنال بالقُوّة، ثمّ اعتاض الناس عن القوّة بذْل الأثمان لأولياء النساء ببيعهم بناتهم ومَوْلَيَاتِهم، ثمّ ارتقى التشريع وكمُل عقد النكاح، وصارت المرأة حليلة الرجل شريكته في شؤونه وبقيت الصدُقات أمارات على ذلك الاختصاص القديم تميّز عقد النكاح عن بقية أنواع المعاشرة المذمومة شرعاً وعادة، وكانت المعاشرة على غير وجه النكاح خالية عن بذل المال للأولياء إذ كانت تنشأ عن الحبّ أو الشهوة من الرجل للمرأة على انفراد وخفية من أهلها، فمن ذلك الزنى الموقّت، ومنه المخادنة، فهي زنا مستمرّ، وأشار إليها القرآن في قوله‏:‏

‏{‏محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏ ودون ذلك البغاء وهو الزنا بالإماء بأجور معيّنة، وهو الذي ذكر الله النهي عنه بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏ وهنالك معاشرات أخرى، مثل الضماد وهو أن تتّخذ ذات الزوج رجلاً خليلاً لها في سنة القحط لينفق عليها مع نفقة زوجها‏.‏ فلأجل ذلك سمّى الله الصداق نِحلة، فأبعد الذين فسّروها بلازم معناها فجعلوها كناية عن طيب نفس الأزواج أو الأولياء بإيتاء الصدقات، والذين فسروها بأنّها عطية من الله للنساء فرضها لهنّ، والذين فسّروها بمعنى الشرع الذي يُنتحل أي يُتَّبع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً‏}‏ الآية أي فإن طابت أنفسهنّ لكم بشيء منه أي المذكور‏.‏ وأفرد ضمير «منه» لتأويله بالمذكور حملاً على اسم الإشارة كما قال رؤبة‏:‏

فيها خُطوط من سواد وبلَق *** كأنَّه في الجِلد توليع البَهَق

فقال له أبو عبيدة‏:‏ إمّا أن تقول‏:‏ كأنّها إن أردت الخطوط، وإما أن تقول‏:‏ كأنّهما إن أردت السواد والبلَق فقال‏:‏ أردْتُ كأنّ ذلك، ويْلَك أي أجرى الضمير كما يُجرى اسم الإشارة‏.‏ وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عوان بين ذلك‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏68‏)‏‏.‏ وسيأتي الكلام على ضمير ‏(‏مثله‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومثله معه ليفتدوا به‏}‏ في سورة العقود ‏(‏36‏)‏‏.‏

وجيء بلفظ نفساً مفرداً مع أنّه تمييز نسبة ‏{‏طبن‏}‏ إلى ضمير جماعة النساء لأنّ التمييز اسم جنس نكرة يستوي فيه المفرد والجمع‏.‏ وأسند الطيب إلى ذوات النساء ابتداء ثم جيء بالتمييز للدلالة على قوّة هذا الطيب على ما هو مقرّر في علم المعاني‏:‏ من الفرق بين واشتعل الرأس شيباً وبين اشتعل شيب رأسي، ليعلم أنه طيب نفس لا يشوبه شيء من الضغط والإلجاء‏.‏

وحقيقة فعل ‏(‏طاب‏)‏ اتّصاف الشيء بالملاءمة للنفس، وأصله طيب الرائحة لحسن مشمومها، وطيب الريح موافقتها للسائر في البحر‏:‏ ‏{‏وجرين بهم بريح طيّبة‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏، ومنه أيضاً ما ترضى به النفس كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 168‏]‏ ثم استعير لما يزكو بين جنسه كقوله‏:‏ ‏{‏ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏ ومنه فعل ‏{‏طبن لكم عن شيء منه نفساً‏}‏ هنا أي رضين بإعطائه دون حرج ولا عسف، فهو استعارة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فكلوه‏}‏ استعمل الأكل هنا في معنى الانتفاع الذي لا رجوع فيه لصاحب الشيء المنتفع به، أي في معنى تمام التملّك‏.‏ وأصل الأكل في كلامهم يستعار للاستيلاء على مال الغير استيلاء لا رجوع فيه، لأنّ الأكل أشدّ أنواع الانتفاع حائلاً بين الشيء وبين رجوعه إلى مستحقّه‏.‏ ولكنّه أطلق هنا على الانتفاع لأجل المشاكلة مع قوله السابق‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏ فتلك محسّن الاستعارة‏.‏

و ‏{‏هنيئاً مريئاً‏}‏ حالان من الضمير المنصوب وهما صفتان مشبّهتان من هنَا وهَنِيء بفتح النون وكسرها بمعنى ساغ ولم يعقب نغصاً‏.‏ والمريء من مُرو الطعام مثلث الراء بمعنى هنئ، فهو تأكيد يُشبه الاتباع‏.‏ وقيل‏:‏ الهنيء الذي يلذّه الآكل والمريء ما تحمد عاقبته‏.‏ وهذان الوصفان يجوز كونهما ترشيحاً لاستعارة ‏{‏كلوه‏}‏ بمعنى خذوه أخذ ملك، ويجوز كونهما مستعملين في انتفاء التبعة عن الأزواج في أخذ ما طابت لهم به نفوس أزواجهم، أي حلالاً مباحاً، أو حلالاً لا غرم فيه‏.‏ وإنّما قال‏:‏ ‏{‏عن شيء منه‏}‏ فجيء بحرف التبعيض إشارة إلى أن الشأن أنّ لا يَعرى العقد عن الصداق، فلا تسقطه كلّه إلاّ؛ أنّ الفقهاء لمّا تأوّلوا ظاهر الآية من التبعيض، وجعلوا هبة جميع الصداق كهبته كلّه أخذاً بأصل العطايا، لأنّها لمّا قبضته فقد تقرّر ملكها إيّاه، ولم يأخذ علماء المالكية في هذا بالتهمة لأنّ مبنى النكاح على المكارمة، وإلاّ فإنّهم قالوا في مسائل البيع‏:‏ إنّ الخارج من اليد ثم الراجع إليها يعتبر كأنّه لم يخرج، وهذا عندنا في المالكات أمر أنفسهنّ دون المحجورات تخصيصاً للآية بغيرها من أدلّة الحجر فإنّ الصغيرات غير داخلات هنا بالإجماع‏.‏ فدخل التخصيص للآية‏.‏ وقال جمهور الفقهاء‏:‏ ذلك للثيّب والبكر، تمسّكاً بالعموم‏.‏ وهو ضعيف في حمل الآدلّة بعضها على بعض‏.‏

واختلف الفقهاء في رجوع المرأة في هبتها بعضَ صداقها‏:‏ فقال الجمهور‏:‏ لا رجوع لها، وقال شريح، وعبد الملك بن مروان‏:‏ لها الرجوع، لأنّها لو طابت نفسها لما رجعت‏.‏ ورووا أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى قضاته «إنّ النساء يعطين رغبة ورهبة فأيّما امرأة أعطته، ثمّ أرادت أن ترجع فذلك لها» وهذا يظهر إذا كان ما بين العطيّة وبين الرجوع قريباً، وحدث من معاملة الزوج بعد العطيّة خلاف ما يؤذن حسن المعاشرة السابق للعطيّة‏.‏

وحكم هذه الآية ممّا أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

عطف على قوله‏:‏ ‏{‏وآتوا النساء صدقاتهن‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 4‏]‏ لدفع توهّم إيجاب أن يؤتى كلّ مال لمالكه من أجل تقدّم الأمر بإتيان الأموال مالكيها مرّتين في قوله‏:‏ ‏{‏وآتوا اليتامى أموالهم وآتوا النساء صدقاتهن‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2، 4‏]‏‏.‏ أو عطف على قوله‏:‏ ‏{‏وآتوا اليتامى‏}‏ وما بينهما إعتراض‏.‏

والمقصود بيان الحال التي يمنع فيها السفيه من ماله، والحال التي يؤتى فيها مالَه، وقد يقال كان مقتضى الظاهر على هذا الوجه أن يقدّم هنالك حكم منع تسليم مال اليتامى لأنّه أسبق في الحصول، فيتّجه لمخالفة هذا المقتضى أن نقول قدّم حكم التسليم، لأنّ الناس أحرص على ضدّه، فلو ابتدأ بالنهي عن تسليم الأموال للسفهاء لاتّخذه الظالمون حجّة لهم، وتظاهروا بأنّهم إنّما يمنعون الأيتام أموالهم خشية من استمرار السفه فيهم، كما يفعله الآن كثير من الأوصياء والمقدّمين غير الأتقياء، إذ يتصدّون للمعارضة في بيّنات ثبوت الرشد لمجرّد الشغب وإملال المحاجير من طلب حقوقهم‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تؤتوا السفهاء‏}‏ كمثل الخطاب في ‏{‏وآتوا اليتامى وآتوا النساء‏}‏ هو لعموم الناس المخاطبين بقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس اتّقوا ربكم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 1‏]‏ ليأخذ كل من يصلح لهذا الحكم حظّه من الامتثال‏.‏

والسفهاء يجوز أن يراد به اليتامى، لأنّ الصغر هو حالة السفه الغالبة، فيكون مقابلاً لقوله‏:‏ ‏{‏وآتوا اليتامى‏}‏ لبيان الفرق بين الإيتاء بمعنى الحفظ والإيتاء بمعنى التمكين، ويكون العدول عن التعبير عنهم باليتامى إلى التعبير هنا بالسفهاء لبيان علّة المنع‏.‏ ويجوز أن يراد به مطلق من ثبت له السفه، سواء كان عن صغر أم عن اختلال تصرّف، فتكون الآية قد تعرّضت للحجر على السفيه الكبير استطراداً للمناسبة، وهذا هو الأظهر لأنّه أوفر معنى وأوسع تشريعاً‏.‏ وتقدّم بيان معاني السفه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا من سفه نفسه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏130‏)‏‏.‏

والمراد بالأموال أموال المحاجير المملوكة لهم، ألا ترى إلى قوله‏:‏ وارزقوهم فيها‏}‏ وأضيفت الأموال إلى ضمير المخاطبين ب ‏(‏يا أيّها الناس‏)‏ إشارة بديعة إلى أنّ المال الرائج بين الناس هو حقّ لمالكية المختصّين به في ظاهر الأمر، ولكنّه عند التأمّل تلوح فيه حقوق الأمة جمعاء لأنّ في حصوله منفعة للأمّة كلّها، لأنّ ما في أيدي بعض أفرادها من الثروة يعود إلى الجميع بالصالحة، فمن تلك الأموال يُنفق أربابها ويستأجرون ويشترون ويتصدّقون ثم تورث عنهم إذا ماتوا فينتقل المال بذلك من يد إلى غيرها فينتفع العاجز والعامل والتاجر والفقير وذو الكفاف، ومتى قلَّت الأموال من أيدي الناس تقاربوا في الحاجة والخصاصة، فأصبحوا في ضنك وبؤس، واحتاجوا إلى قبيلة أو أمّة أخرى وذلك من أسباب ابتزاز عزّهم، وامتلاك بلادهم، وتصيير منافعهم لخدمة غيرهم، فلأجل هاته الحكمة أضاف الله تعالى الأموال إلى جميع المخاطبين ليكون لهم الحقّ في إقامة الأحكام التي تحفظ الأموال والثروة العامة‏.‏

وهذه إشارة لا أحسب أنّ حكيماً من حكماء الاقتصاد سبق القرآن إلى بيانها‏.‏ وقد أبْعَدَ جماعة جعلوا الإضافة لأدنى ملابسة، لأنّ الأموال في يد الأولياء، وجعلوا الخطاب للأولياء خاصّة‏.‏ وجماعة جعلوا الإضافة للمخاطبين لأنّ الأموال من نوع أموالهم، وإن لم تكن أموالهم حقيقة، وإليه مال الزمخشري‏.‏ وجماعة جعلوا الإضافة لأنّ السفهاء من نوع المخاطبين فكأنّ أموالَهم أموالُهم وإليه مال فخر الدين‏.‏ وقارب ابن العرب إذ قال‏:‏ «لأنّ الأموال مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد وتخرج من ملك إلى ملك» وبما ذكرته من البيان كان لكلمته هذه شأن‏.‏ وأبعَدَ فريق آخرون فجعلوا الإضافة حقيقية أي لا تؤتوا يا أصحاب الأموال أموالكم لمن يضيعها من أولادكم ونسائكم، وهذا أبعد الوجوه، ولا إخال الحامل على هذا التقدير إلاّ الحيرة في وجه الجمع بين كون الممنوعين من الأموال السفهاء، وبين إضافة تلك الأموال إلى ضمير المخاطبين، وإنّما وصفته بالبعد لأنّ قائله جعله هو المقصود من الآية ولو جعله وجهاً جائزاً يقوم من لفظ الآية لكان له وجه وجيه بناء على ما تقرّر في المقدّمة التاسعة‏.‏

وأجرى على الأموال صفة تزيد إضافتها إلى المخاطبين وضوحاً وهي قوله‏:‏ ‏{‏التي جعل اللَّه لكم قياماً‏}‏ فجاء في الصفة بموصول إيماء إلى تعليل النهي، وإيضاحاً لمعنى الإضافة، فإنّ ‏(‏قيما‏)‏ مصدر على وزن فِعَل بمعنى فِعَال‏:‏ مثل عِوذَ بمعنى عياذ، وهو من الواوي وقياسُه قِوَم، إلاّ أنّه أعلّ بالياء شذوذاً كما شذّ جياد في جمع جَواد وكما شذّ طيال في لغة ضَبَّةَ في جمع طويل، قصدوا قلب الواو ألفاً بعد الكسرة كما فعلوه في قيام ونحوه، إلاّ أنّ ذلك في وزن فِعال مطّرد، وفي غيره شاذّ لكثرة فِعال في المصادر، وقلّة فِعَل فيها، وقيم من غير الغالب‏.‏ كذا قرأه نافع، وابن عامر‏:‏ «قيما» بوزن فِعَل، وقرأه الجمهور «قياماً»، والقيام ما به يتقوّم المعاش وهو واوي أيضاً وعلى القراءتيْن فالإخبار عن الأموال به إخبار بالمصدر للمبالغة مثل قول الخنساء‏:‏

فإنَّمَا هي إقْبَال وإدْبَار *** والمعنى أنّها تقويم عظيم لأحوال الناس‏.‏ وقيل‏:‏ قيما جمع قِيمة أي التي جعلها الله قيماً أي أثماناً للأشياء، وليس فيه إيذان بالمعنى الجليل المتقدّم‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏وارزقوهم فيها واكسوهم‏}‏ واقع موقع الاحتراس أي لا تؤتوهم الأموال إيتاء تصرّف مطلق، ولكن آتوهم إيّاها بمقدار انتفاعهم من نفقة وكسوة، ولذلك قال فقهاؤنا‏:‏ تسلّم للمحجور نفقته وكِسْوته إذا أمن عليها بحسب حاله وماله، وعدل عن تعدية ‏{‏ارزقوهم واكسوهم‏}‏ ب ‏(‏مِن‏)‏ إلى تعديتها ب ‏(‏في‏)‏ الدالّة على الظرفية المجازية، على طريقة الاستعمال في أمثاله، حين لا يقصد التبعيض الموهم للإنقاص من ذات الشيء، بل يراد أنّ في جملة الشيء ما يحصل به الفعل‏:‏ تارة من عينه، وتارة من ثمنه، وتارة من نتاجه، وأنّ ذلك يحصل مكرّراً مستمرّاً‏.‏

وانظر ذلك في قول سَبرة بن عمرو الفَقْعسي‏:‏

نُحابِي بها أكفاءنَا ونُهيِنَها *** ونَشْرَب في أثْمَانِها ونُقامِر

يريد الإبل التي سيقت إليهم في دية قتيل منهم، أي نشرب بأثمانها ونقامر، فإمّا شربنا بجميعها أو ببعضها أو نسترجع منها في القمار، وهذا معنى بديع في الاستعمال لم يسبق إليه المفسّرون هنا، فأهمل معظمهم التنبيه على وجه العدول إلى ‏(‏في‏)‏، واهتدى إليه صاحب «الكشاف» بعض الاهتداء فقال‏:‏ أي اجعلوها مكاناً لرزقهم بأن تتّجروا فيها وتتربَّحوا حتّى تكون نفقتهم من الربح لا من صلب المال‏.‏ فقوله‏:‏ «لا من صلب المال» مستدرك، ولو كان كما قال لاقتضى نهياً عن الإنفاق من صلب المال‏.‏

وإنّما قال‏:‏ ‏{‏وقولوا لهم قولاً معروفاً‏}‏ ليسلم إعطاؤهم النفقة والكسوة من الأذى، فإنّ شأن من يُخرج المال من يده أن يستثقل سائل المال، وذلك سواء في العطايا التي من مال المعطي، والتي من مال المعطَى، ولأنّ جانب السفيه ملموز بالهون، لقلّة تدبيره، فلعلّ ذلك يحمل ولّيه على القلق من معاشرة اليتيم فيسمعه ما يكره مع أنّ نقصان عقله خلل في الخلقة، فلا ينبغي أن يشتم عليه، ولأنّ السفيه غالباً يستنكر منعَ ما يطلبُه من واسع المطالب، فقد يظهر عليه، أو يصدر منه كلمات مكروهة لوليّه، فأمر الله لأجل ذلك كلّه الأولياء بأن لا يبتدئوا محاجيرهم بسَيّئ الكلام، ولا يجيبوهم بما يسوء، بل يعظون المحاجير، ويعلّمونهم طرق الرشاد ما استطاعوا، ويذكّرونهم بأنّ المال مالهم، وحفظه حفظ لمصالحهم، فإنّ في ذلك خيراً كثيراً، وهو بقاء الكرامة بين الأولياء ومواليهم، ورجاء انتفاع الموالي بتلك المواعظ في إصلاح حالهم حتّى لا يكونوا كما قال‏:‏

إذا نُهِي السفيهُ جرى إليه *** وخالف والسفيه إلى خلاف

وقد شمل القَول المعروف كلّ قول له موقع في حال مقاله‏.‏ وخرج عنه كلّ قول منكر لا يشهد العقل ولا الخُلُق بمصادفته المحزّ، فالمعروف قد يكون ممّا يكرهه السفيه إذا كان فيه صلاح نفسه‏.‏